المادة    
  1. فناء جميع المخلوقات بالصيحة ثم إعادتهم

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تلبثون ما لبثتم، ثم يتوفى نبيكم}، وهذا له مناسبة بعد ذكر استئثار الله تعالى بمفاتيح الغيب الخمسة، فهو مما أطلع الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه يطلع رسوله على بعض الغيب، كما قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:27]، ومنه هذا الأمر الذي جلست الوفود تستمع إليه وتعجب منه.
    وأكبر مصيبة نزلت بالمسلمين إلى قيام الساعة هي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل شيء فُقِدَ فهو هين بالنسبة إلى المصاب به صلى الله عليه وسلم، وبعثته صلى الله عليه وسلم ووفاته من علامات الساعة.
    قال: {ثم تلبثون ما لبثتم}، أي: تلبثون بعد ذلك ما يشاء الله من القرون والأحقاب.
    {ثم تبعث الصائحة}، الصيحة أو الصائحة، يعني: القيامة، ينفخ في الصور فتقوم القيامة، ويكون ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الدنيا مثله.
    يقول: {فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئاً إلا مات}، كما قال الله تعالى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ))[الرحمن:26]، وقوله تعالى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ))[الزمر:68] هذه هي النفخة الأولى، فلا يبقى شيء مما كتب الله تبارك وتعالى عليه الموت إلا ويموت ويصعق.
    قال: {والملائكة الذين مع ربك عز وجل}، حتى الملائكة يموتون مع من يموت.
    قال: {فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض، وخلت عليه البلاد}، فلم يبق إلا هو سبحانه وتعالى، فسوف تخلو الأرض، ويخلو الكون من كل ديّار وساكن.
    يقول: {فأرسل ربك عز وجل السماء تهضب من عند العرش} أي: تهطل وينزل المطر من عند العرش، بعد أن يكون قد فني كل من عليها، وأصبحت قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.
    {فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت، إلا شقَّت القبر عنه حتى تخلفه من عند رأسه فيستوي جالساً}، وذلك كالزرع -مثلاً- إذا حصد ولم يبق منه إلا الجذع اليابس، فيأتي بعد ذلك الخلف وهو ما ينبت من جديد، ثم يكون ساقاً جديدة، وأول ما يبدأ ينمو من الميت يكون من عند رأسه، فيستوي جالساً.
    ينزل الله تعالى المطر على هذه العظام البالية والرمم القديمة، التي لو تأملها إنسان ما رأى منها شيئاً، كما جاء في القرآن خبر من أعمى الله تعالى بصيرته، حين أخذ عظاماً بالية فحتها ثم قال: ((مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ))[يس:78] قال تعالى: ((قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ))[يس:79] قال: {فيقول ربك عز وجل: مهيم؟ لما كان فيه}، أي يسأله: ما علمك؟! ما خبرك يا ابن آدم؟ : {يقول: يا رب! أمس، اليوم؛ لعهده بالحياة، يحسبه حديثاً بأهله}، فكل إنسان يظن أنه لم يمت ولم يفارق أهله إلا أمس أو اليوم، مع أن له آماداً لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
  2. وصف النبي صلى الله عليه وسلم للبعث والنشور وأسلوبه في إفهام المخاطبين

    قال: {فقلت: يا رسول الله! كيف يجمعنا، بعدما تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟!}، وهذه أكبر شبهة كانت لدى المشركين في القديم، وما تزال لدى من ينكر اليوم الآخر إلى اليوم.. قال تعالى: ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ))[يس:78]، أنسيت من أين جئت حتى صرت بشراً سوياً، وإذا بك تجادل رب العالمين في شأن النشأة الآخرة ونسيت النشأة الأولى؟!!
    ولكن المعلم القدوة والمربي الحكيم صلى الله عليه وسلم -كما قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: {بأبي هو وأمي! ما رأيت قبله ولا بعده معلماً مثله صلى الله عليه وسلم} - يضرب المثل من آلاء الله فيقول: {أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عز وجل}، أي: سأضرب لك مثلاً من نعم الله المبثوثة، وآياته المشهودة، يوضح لك كيف سيكون المعاد والبعث، {الأرض أشرفت عليها وهي في مدرة بالية}.، أي: قاعاً أجرد ليس فيه إلا التراب والرمل، {فقلتَ: لا تحيا أبداً} أي: قلت: لن ينبت شيء هنا، كما قال عزير عليه السلام لما رأى بيت المقدس وهو على تلك الحالة، قال الله تعالى: ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ))[البقرة:259]، مدة يسيرة (ثُمَّ بَعَثَهُ) وإذا به يشاهد الناس يذهبون ويجيئون، والأسواق ممتلئة، والزراع يزرعون، والعمال يصنعون، ويرى هذه العبرة في نفسه وحماره، ويرى العظام كيف ينشزها الله ثم يكسوها لحماً، وعندها قال: ((أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[البقرة:259].
    ونحن عندنا عبرة واضحة دالة على البعث والنشور، وهي أمام كل ذي عين لمن تأملها؛ وهي ما هو مذكور في هذا الحديث.
    قال: {ثم أرسل الله عليها السماء -أي: المطر- فلم تلبث عليك إلا أياماً حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة} أو{ وهي شرية واحدة } كما في بعض الروايات، {ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض}، أي: أن الله أقدر على أن يجمعكم ويخرجكم من قبوركم، من أن يخرج النبات من هذه الأرض من ذلك الماء.
    (فتراها وهي شربة واحدة)، أي: قطعة واحدة خضراء تشرب من ذلك الماء، أو (شرية واحدة)، والشرية في لغة العرب: الحنظلة الخضراء، فكأنها قطعة خضراء واحدة، والمعنى لا يختلف؛ إذ المقصود أنها بعد أن كانت خاشعة هامدة مدرَة مجدبة، أصبحت خضراء يانعة مورقة تسر الناظرين، حدائق ذات بهجة ما كان لنا نحن البشر أن ننبت ولا أن ننشئ ثمرتها.
  3. نظر الخالق إلى خلقه ونظرهم إليه

    قال: {فتخرجون من الأصواء -أي: القبور- ومن مصارعكم؛ فتنظرون إليه وينظر إليكم} هذا هو الشاهد: {فتنظرون إليه وينظر إليكم، قال: قلت: يا رسول الله! كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟!} ولفظة: (شخص) واردة في الحديث الصحيح -كما ذكر ابن القيم رحمه الله- {لا شخص أغير من الله}.
    ثم قال: { أنبئك بمثل هذا في آلاء الله عز وجل}، أي: يضرب له مثالاً آخر من آلاء الله ومخلوقاته، كما ضرب له من قبل.
    قال: {الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، ولا تضارون في رؤيتهما}، فكل واحد ينظر إلى القمر ويظن أن القمر ينظر إليه وحده، وأنه هو وحده ينظر إلى القمر، حتى إن بعض العوام يقول: هذا القمر ملكنا، أما الآخرون -كأصحاب الهند وغيرهم -فعندهم قمر آخر!! ومع ذلك فالواقع أنه واحد، وأن كل الناس يرونه، وكذلك لو أن القمر يرى لرأى كل الناس في وقت واحد.
    وهذا مثال للتقريب لتتضح المسألة -ولله المثل الأعلى- فهؤلاء الصحابة الكرام أهل عقول صحيحة لا يعارضون بها النقل الصريح، فهم ليسوا من أهل الكلام الذين خربت عقولهم، وفسدت أذواقهم بتركهم للكتاب والسنة وإقبالهم على كلام اليونان، والعرب عموماً أمة فطرية، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، فيما نقله عنه الحافظ ابن رجب في كتاب فضل علم السلف على علم الخلف، قال: (ما فسد الناس واختلفوا إلا عندما تركوا منطق العرب ومالوا إلى منطق أرسطو طاليس )، ومنطق العرب هو: فطرتهم الواضحة.
    فببدهية فهم الصحابة أنهم يرون الله ويراهم، مع اعتقادهم أنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] :، ولا يوجد ثمة تعارض بينهما، وكذا سائر الصفات. قال: {ولعمر إلهك}، كأنه قال: (وإلهك)، فهذه اللام موطئة للقسم، ولفظة (لعمر) ليست بيمين، وإنما هي موطئة للقسم، كما في قوله تعالى: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ))[الحجر:72]، فلم يقسم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وطأ للقسم فقط.
    وقوله: (إن الشمس والقمر آية منه صغيرة)، فقد كان الناس في الجاهلية -بل وفي الإسلام- قبل علم الفلك الحديث، كانوا يظنون أن القمر أكبر ما في السماء، وأن جميع الكواكب أصغر منه، والواقع أن القمر آية صغيرة، وهو تابع من توابع الأرض، وهناك نجوم وكواكب لا يعلم مقدارها إلا الله، مثل (الشِّعرى) الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: ((وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى))[النجم:49]، والشعرى: نجم عظيم أكبر من الشمس، وكذلك يصف النبي صلى الله عليه وسلم القمر بأنه آية صغيرة، وهو كذلك بالنسبة إلى ملكوت السماوات.
  4. حال الناس يوم العرض على الله تعالى

    يقول الراوي: {قلت: يا رسول الله! فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه باديةً له صفحاتُكم، لا يخفى عليه منكم خافية}، كما قال تعالى: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ))[الحاقة:18]، هذا هو الموقف، وهذه هي الحال التي لا يمكن لأحد أن يخفي فيها شيئاً، فأعضاؤه تنطق وتشهد عليه، وكذلك الملائكة والكتـاب، فيقال لكل إنسان: ((اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا))[الإسراء:14]، فليس هناك أمور مخفية، ولا يستطيع أحدٌ أن يكتم شيئاً مما عمل.
    قال: {فيأخذ ربك عز وجل بيده غُرفَةً من ماء، فينضح بها قبلَكُم} أي: ينضح بها الخلائق {فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدٍ منكم منها قطرة}، فكل أحد ستصيبه قطرة من هذا الماء، {فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء}، أي: مثل قطعة القماش البيضاء النقية، {وأما الكافر فتنضحه أو قال: فتخطمه بمثل الحُمَم الأسود}؛ فيسود وجهه كما اسودت أعماله من قبل عياذاً بالله! قال تعالى: ((يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ))[آل عمران:106].
    قال: {ألا ثم ينصرف نبيكم}، أي: ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم من أرض المحشر {ويفترق على أثره الصالحون}، فنبينا العظيم صلى الله عليه وسلم إمامنا في الدنيا والآخرة، فبعد العرض والحساب، وبعد أن يشفعه الله تعالى في أمته وفي العالمين، ويخفف عن الناس، ينصرف بأمته، فيتبعونه صلى الله عليه وسلم وقد عطشوا وأنهكوا من هذا الوقوف الطويل، والحر الشديد، والحساب العظيم، ومن هذه الأهوال، فيتبعون النبي صلى الله عليه وسلم، وحظهم في اتباعه في ذلك اليوم مثل حظهم في اتباعه في هذه الحياة الدنيا، والمُعرِض عن هديه وسنته في الدنيا سوف يبُعد ويطرد هناك، قال تعالى: ((جَزَاءً وِفَاقًا))[النبأ:26].
    قال: { فيسلكون جسراً من النار}، أي: يعبرون الجسر الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، قال الله تعالى : ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا))[مريم:71]، وهذا الورود على النار -المذكور في الآية- هو لكل الخلائق من فوق هذا الجسر، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم واقفون هنالك ودعواهم: {اللهم سلم سلم}، يدعون الله سبحانه وتعالى أن يسلمهم ويسلم أممهم.
    قال: {فيسلكون جسراً من النار يطأ أحدكم الجمرة يقول: حس}، كالإنسان إذا قام من النوم ووضع قدميه على شيء حار، أو فاجأه شيء حار، فأحس به فقال: حس.. يمشى على الجسر ويشعر بحرها ولفح سعيرها، ويكاد أن يضع قدمه في النار، أو يسقط فيها، نسأل الله العفو والعافية.
    قال {يقول ربك عز وجل: أو أنه } أي: نعم. إن الأمر كذلك، أو أنتم كذلك، أو هذا هو الجسر، وهذه هي النار.
    قال: {ألا فتطلعون على حوض نبيكم على أظماء -والله- ناهلة عليها، قط رأيتها} يعني: ما رأيت مثلها، والنواهل: الإبل الواردة للشرب، فمع شدة عطشهم يندفعون كالإبل الظمأى للشرب من هذا الحوض الذي اختص وأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال: {فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح}، فالمؤمنون بعد أن يتجاوزوا الجسر يندفعون إلى الحوض اندفاع الإبل الظمأى إلى الشراب، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم كيفية شربهم منه وأنه سهل، فيبسطون أيديهم عند الحوض فيقع في يد كل واحد منهم قدح من هذا الحوض المورود، الذي يشخب -يصب- فيه ميزابان من الكوثر من الجنة، فإذا شربه {يطهره من الطَّوْف والبول والأذى}، يعني: لا يبول ولا يتبرز كما كان في الدنيا، ولا يبقى فيه أذى، فإن شربة واحدة من هذا الحوض تطهره وتنقيه فلا يحتاج أن يتغوط أو يبول، ولا يخرج منه شيء من الأذى أبداً، وهي شربة لا يظمأ بعدها أبداً.. جعلنا الله من وارديه؛ آمين.
    قال: {وتُخنس الشمسُ والقمرُ فلا ترون منهما واحداً} أي: أن الشمس والقمر يختفيان، وذلك بأن يجمعهما الله سبحانه وتعالى فيلقيهما في جنهم ويتبعهما من كان يعبدهما في الدنيا؛ زيادة في عذابهم وحسراتهم، لا تعذيباً للشمس والقمر.
    {قال: قلت: يا رسول الله! فبم نبصر؟ قال: بمثل بصرك ساعتك هذه}، أي: أن الناس يوم القيامة يبصرون بمثل البصر في تلك الساعة التي كان يخطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ما بعد صلاة الفجر وقبيل طلوع الشمس، وهي أفضل الأوقات من جهة النور والإضاءة، وجمال الجو، والبرودة، وهي أيضاً أعدل الأوقات في جميع الأحوال والبيئات، والآخرة أعظم لا شك.
    قال: {وذلك قبل طلوع الشمس، في يوم أشرقت الأرض وواجهت به الجبال}، فإذا سطع ضوء الشمس على قمم الجبال؛ فإن الإضاءة أجمل ما تكون في ذلك الوقت، فليست في وقت الظهيرة حيث الأشعة قوية، وليست قبل ذلك حيث الظلام، فهكذا يكون نور الجنة، جعلنا الله من أهلها، أما النار فهي سوداء مظلمة، عافانا الله منها.
    {قال: قلت: يا رسول الله! فبم نُجزى من سيئاتنا وحسناتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو}، وهذا من كرم الله عز وجل، كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا))[النساء:40]، وقال تعالى: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))[الأنعام:160]، فالله يجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها، إلا أن يعفو ويتجاوز عنها.
    فواعجباً كيف يدخل الناس النار! وويل لمن غلبت آحاده عشراته! لكنه التيه والضلال والخسران وضياع العقل: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10]، وإلا فأين ذوو العقول؟ هلا تفكروا كيف تغلب الآحاد العشرات؟! الآحاد التي قد تعفى كيف تغلب العشرات التي تضاعف أضعافاً وأضعافاً، لا يكون ذلك إلا فيمن أعمى الله تبارك وتعالى بصيرته، وكتب عليه الشقاوة.
  5. وصف الجنة والنار

    قال:{ قلت: يا رسول الله! ما الجنة وما النار؟ قال: لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً، وإن الجنة لها ثمانية أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً، قلت: يا رسول الله! فعلام نطلع من الجنة؟}، أي: إذا أطلعنا الله على الجنة فماذا نرى؟ وماذا نجد فيها؟ {قال: على أنهارٍ من عسل مصفى}، وسيذكر فيها أموراً كلها مذكورة في القرآن، وهذا مما يدل على صحة الحديث، كما قال ابن القيم رحمه الله.
    قال: {وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة}، أما خمر الدنيا فكلها صداع وندامة، ما شربها أحد إلا وأصابه الألم والوجع والأمراض في بدنه، والندامة والخزي في الدنيا، مع ما ينتظره عند الله سبحانه وتعالى.
    قال: {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماءٍ غيرِ آسن، وفاكهة، ولعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه} أي:كل ما يخطر ببالك، وخير من مثله، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فلا يمكن أن نتصوره ونتخيله.
    قال: {وأزواج مطهرة، قلت: يا رسول الله! أولنا فيها أزواج؟! أو منهن مصلحات؟!} أي: أيوجد في الجنة أزواج؟! ومنهن صالحات أو مصلحات؟! لقد كان يظن أنهن كنساء الدنيا اللاتي يغلب عليهن العوج! {قال: المصلحات للصالحين}، وفي لفظ: {الصالحات للصالحين}، فما داموا صالحين وقد دخلوا الجنة، فإنه يقال لهم: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ))[الزخرف:70]، وليس هناك في الجنة شقاق ولا خصام، ولا شر ولا أذى، وإنما كما يقول تعالى: ((وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ))[الزخرف:71].
    قال: {تلذونهن ويلذنكم مثل لذاتكم في الدنيا}، ولا يعني هذا أنها مثلها في الصفة، إنما المقصود أنها لذة. {غير أن لا توالد}، أي: ليس قصد أهل الجنة التوالد، فإن الإنسان في الجنة لا يستمتع بزوجته لطلب الإنجاب، كما يحدث في الدنيا، إذ الأصل في زواج الدنيا فيها هو طلب الإنجاب، وهو الأساس، ولذلك يتبعه مشاكل الحمل والولادة والنفاس، وإن كان هناك منافع أخرى، لكن القصد الأساس هو التوالد والإنجاب، أما في الجنة فليس طلب الولد مقصوداً كما في الدنيا، لكن قد يتمنى الإنسان في الجنة أن يولد له ولد، فيولد له كما يشاء، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
    قال لقيط: { فقلت: يا رسول الله! أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم}، ليس هناك جواب على هذا السؤال، فقد انتهت حدود إمكانية الجواب عند هذه الأمور؛ لأنك مهما تأملت فلن تصل إلى حقيقة ما علمت، فكيف تسأل عما هو أقصى وأبعد منه؟ فهذا شيء لا يمكن أن يجاب عنه؛ لذا لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم.
  6. مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لوفد بني المنتفق

    {قال: قلت: يا رسول الله! علام أبايعك؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال المشرك}، أي: مزايلة المشركين، والمزايلة هي المباعدة والمفارقة، كما قال تعالى: ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ))[يونس:28]، أي: باعدنا، وفرقنا بينهم، وكما في قوله سبحانه: ((لَوْ تَزَيَّلُوا))[الفتح:25]، أي: لو تفرقوا وابتعد بعضهم عن بعض، وصار لكلٍ منهم جهة أو مجال مستقل.
    ومما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاهد أصحابه ويبايعهم عليه: أن يبتعدوا عن المشركين وإن كانوا من قومهم، فلابد من مفاصلة، كما قال في الحديث : {لا تتراءى ناراهما}، فيجب على المؤمن مفارقة الكافر والبعد عنه حتى لا يرى نار الكافر، ولا يرى الكافر نار المؤمن، فكل منهم له طريق.. هؤلاء أهل الجنة، وهؤلاء أهل النار، فكيف يلتقون؟ وكيف تكون هناك أخوة إنسانية -كما يقال ويروج له في هذا الزمان زوراً وبهتانا- بين من يشهد أن لا إله إلا الله، من يشهد أن بوذا إله؟! وبين من يعبد الله ومن يعبد الصليب؟! وبين من يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم ومن يتبع بولس ؟!
    أما الآن -ويا أسفاه- فإنه يؤتى بهم ويساكنوننا!! ويعاشروننا في بلاد الإسلام وديار التوحيد التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج منها كل كافر، وأصبحنا نحن وإياهم نأكل ونتمتع كما تأكل الأنعام، والذي ساوى بيننا وبينهم -والله- هو حب الدنيا، ولولاها لما جئنا بهم بحجج وذرائع غير ضرورية، وإنما هي كماليات وإغراق ومبالغة في الترف؛ ولذلك يستقدمون خدماً ومربيات وسائقين.. وكأنه لا يوجد مسلم يحسن ذلك!!.
    فمن أجل الدنيا نسينا الآخرة، ونسينا ربنا عز وجل، ونسينا أننا على طريق وهم على طريق؛ فلم نزايلهم.. فعايشناهم وخالطناهم؛ بل قدرناهم وعظمناهم في كلامنا معهم ومعاملتنا لهم، وهذا دليل على أننا أمة تخلينا عن إيماننا وعقولنا، ولم نعتز بديننا، وبأخلاقنا التي كان العرب في الجاهلية يعتزون بها، مع أنهم كانوا يأكلون الميتة، ويعبدون الأصنام، والفرس والروم كانوا في حضارة ومجد وملك، ومع ذلك كله يأتي أعرابي منهم وهو يطوف عند البيت، فيقول:
    أتعطي ملوك الروم عزاً ومنعة            وتترك قرماً من قرام تميم
    أي: يا رب! كيف تعطي ملوك الروم الدنيا وتترك رجلاً من بني تميم من الأفذاذ؟! فكانت نظرتهم: أننا نحن العرب أفضل؛ بل كانوا يسمون الروم: العلوج؛ فقد كان العرب لا يعتبرون فارس والروم بشراً؛ وذلك لما فيهم من الدياثة، وسوء الخلق.
    فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الصحابة على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال ومفارقة المشركين والمباعدة عن ديارهم.
    قال: {وأن لا تشرك بالله إلهاً غيره}، وهي الوصية العظمى الخالدة أبد الدهر لكل إنسان: ألا يشرك بالله تعالى غيره.
    {قال: قلت: يا رسول الله! وإن لنا ما بين المشرق والمغرب}، أي: اجعل لنا شرطاً وهو: أن لنا الديار ما بين المشرق والمغرب.
    {فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده}، أي: امتنع عن مبايعته على أن له ما بين المشرق والمغرب.
    قال: {وظن أني مشترط ما لا يعطينيه، قال: قلت: نحلّ منها حيث شئنا، ولا يجني امرؤ إلا على نفسه}، أي: أنا لم أقصد أن تملكنا الأرض، لكن نحل حيث نريد، ونرعى حيث نريد، وننزل في أي مكان، (ولا يجني امرؤ إلا على نفسه) فإذا نزلنا في أي مكان وحدثت جناية، فالجاني مؤاخذ بما جنى.
    قال: {فبسط يده، وقال: لك ذلك، تحل حيث شئت، ولا يجني عليك إلا نفسُك، قال: فانصرفنا عنه، ثم قال: ها إن ذين، ها إن ذين -مرتين- لعمر إلهك من أتقى الناس في الأولى والآخرة}.
    ها إن ذين) الهاء للتنبيه، أي: إن هذين الرجلين، وهما: لقيط بن عامر، ونهيك من بني المنتفق، من أتقى الناس في الدنيا والآخرة، شهد لهما بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  7. من مات على الشرك فهو في النار

    يقول: {فقال له كعب بن الخدرية أحد بني بكر بن كلاب: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: بنو المنتفق، بنو المنتفق، بنو المنتفق، أهل ذلك منهم، قال: فانصرفنا، وأقبلت عليه، فقلت: يا رسول الله! هل لأحدٍ ممن مضى من خير في جاهليتهم؟}، لقد تذكر الرجل آباءه وأجداده، والمكارم، والمروءات، والشيم، والأخلاق، والعطاء، والبذل، والمفاخر القديمة، فسأل: {يا رسول الله! هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم؟ فقال رجل من عُرْضِ قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار، قال: فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رءوس الناس}، أي: كأن النار توقدت بين جلد وجهه ولحمه، عندما قال له: إن أباه من أهل النار أمام جمع من الناس.
    قال: {فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟! ثم إذا الأخرى أجمل}، وهذا من الخلق والأدب {فقلت: يا رسول الله! وأهلك؟}، فقوله: (وأهلك) خيرٌ مما لو قال: (وأبوك). أي: أهم كأبي في النار أم غير ذلك؟!
    {قال: وأهلي، لعمر الله! حيثما أتيت على قبر عامري، أو قرشي من مشرك}، أي عندما تمر على أيّ قبر من قبور المشركين من بني عامر أو قريش، وهما أشرف العرب {قل: أرسلني إليك محمد، فأبشرك بما يسوؤك، تُجرُّ على وجهك وبطنك في النار}، أراد بذلك أن يخفف عنه، ويعلمه أن أباه ليس الوحيد في النار، فيذهب عنه ما وجده من حرج، وليعلم أيضاً أن هذا ليس خاصاً بأبيه؛ وإنما كل من مات على الشرك فهو في النار.
    {قال: قلت: يا رسول الله! وما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟! قال صلى الله عليه وسلم: ذلك بأن الله بعث في آخر كل سبع أمم نبياً، فمن عصى نبيه كان من الضالين، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين}، فقد كان بعض العرب يعرفون دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويعرفون الحنيفية السمحة، ويعلمون أن الذي جاء بالأصنام هو عمرو بن لحي، ويعلمون أن هذا الحجر الذي يعبدونه لا يستحق العبادة، ولذلك يقول أحدهم:
    أرب يبول الثعلبان برأسه            لقد ذل من بالت عليه الثعالب
    ويصنع العجوة من التمر ويعبدها، فإذا جاع أكلها! فهذا شيء معروف بطلانه، فيقول: ليس الأمر كذلك؛ وهذا لا يعني أن جميعهم كذلك، وإنما يعني أن الذين كانت هذه هي حالهم فلا يعدون من أهل الفترة المعذورين بجهلهم..
    وبهذا ينتهي هذا الحديث الجليل العظيم.